الارشيف / فن ومشاهير

الجد الأكبر.. قصة قصيرة.. أحمد الخميسي

حمدي عبدالله - القاهرة في الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:28 صباحاً - منذ قرون طويلة حدث أن عصفورا صغيرا كان في صباح يوم مشمس يتواثب داخل قلعة ضخمة بين أقدام جنود ونساء وسقائين ويضرب بمنقاره ليفسح لنفسه مجالا ما بينهم. لم يعر أحد انتباها للعصفور ما عدا صبي كان يمشي متشبثا بكف أمه في السوق، فهز أمه من ثوبها يصيح بها:" عصفور على الأرض"! شدته أمه ليواصل السير إلي الأمام فطاوعها لكنه ظل يتلفت خلفه ناحية العصفور. بعد قليل توقفت المرأة عند خان صغير تبادل قمحها بأمتار من القماش، وتساوم التاجر على السعر، وفي تلك الأثناء بلغ العصفور الخان، ولبث أمام مدخله ينقر الأرض، فسارع الصبي الى العصفور وانحنى عليه وقرب فمه منه يسأله : " هل أنت جريح؟ لم تمشي على الأرض ولا تحلق عاليا؟". أشاح العصفور بمنقاره في ناحية وارتعش ريش جناحيه وهو يقول للصبي : "كنت أود أن أطير لكني لم أعد أرى سماء" ثم رفع العصفور رأسه لينهي الحديث وانصرف عن الصبي ومضى يشق طريقه بين الأقدام بوثبات قصيرة سريعة، وتطلع الصبى إلي أعلى ليفهم كيف أن العصفور لم يعد يرى السماء.

من ذلك الحين جرى نهر الزمن يصب في الأبدية، يتعاقب على سطحه ملوك وأمراء، تغرقه فيضانات، وتشتعل على سطحه حروب، وتتفشى أوبئة، وتتوهج وتحترق برقة مليارات المشاعر. خلال تلك الازمنة الطويلة اعتاد أحفاد ذلك العصفور، جيلا بعد جيل، أن تكون سماؤهم برك المياه ووحل الشوارع حتى ألفوا الوثب بين أقدام البشر بحثا عن فتات الطعام، وبناء الأعشاش فوق حواف البيوت. زمنا بعد زمن تحولت الأجنحة إلي أذرع، والسيقان إلي أرجل، وكبرت الصدور التي كانت تزقزق وأمست رئات تنفخ الصبر، ولم يعد بوسع كائن أن يميز العصافير من البشر عندما تمشى العصافير في المدن والقرى بالفساتين والبنطلونات.

اليوم قبيل الغروب توقف رجل بقميص نصف كم وسروال أزرق أمام محل يسأل صاحب المكان عملا. أجابه الرجل من دون أن ينظر ناحيته: " لا توجد لدينا وظائف". أحبط الرد الرجل فمكث مكانه مهموما ثم استدار وتابع سيره ببطء يغمغم بشيء ما. وبعد قليل رأى الرجل محلا آخر بابه مفتوح، فتوقف أمامه. سأل عملا أي عمل. لكن احدا لم يعتن حتى بالرد عليه فتلفت حوله بحسرة وسرت في سطح جلده إرتجافة الجناح القديم يحن للتحليق فاندفع إلي الأمام، بخطوات نزقة متلاحقة أقرب إلي وثبات جده العصفور الأكبر، وفي تلك الأثناء تصلب أنفه كالمنقار تخايله حبة قمح وقطرة ماء، وارتجت فيه فطرته العريقة إلي التحليق ، فتمهل وجال ببصره في ما حوله ثم شب على أصابع قدميه وضرب بذراعيه محلقا إلى أعلى. وكان ثمت صبي صغير يراقبه بدهشة، وهز أمه من كفها يصيح بها : " أماه . إنسان يحلق! ياأماه!".

Advertisements

قد تقرأ أيضا